الاستاذ المحامي المقتدر سي المكي ميدة

الأستاذ المحامي المقتدر سي المكي ميدة

بقلم الأستاذ / عاشوري قمعون

جامعة الشهيد حمه لخضر الوادي

مقدمة :

تعرفت على سي المكي منذ بداية افتتاح مكتبه الذي استأجره من عائلة دودي ، حينما حل خالي عبد الله بن الحاج محمد خليل، المقيم في تقرت ، بالوادي ، طلب مني مرافقته لمكتبه لتهنئته وتحيته. وتدعمت العلاقة بيننا لما تجاورنا في المسكن . كان سي المكي رجلا طيبا ، متخلقا ، ودودا . يحترم جيرانه ويقدرهم ، بل طالما يبادر بالسلام عندما نلتقي معه في الشارع أو أمام مأمنه . ويعرض علينا مصاحبته في سيارته ليوصلنا إلى مبتغانا . ولما ألفتُ كتابيّ (الشقيقين : الشيخ الطاهر والشيخ أحمد العبيدي) و(الشيخين : الشيخ إبراهيم بن عامر والشيخ الهاشمي حسني) ، أهديته النسختين ، فسر بالهدية ، واغتبط بها . ووعدته بإهدائه نسخة من كتاب العلامة الموسوعي الشيخ حمزة بوكوشة (1907- 1994) ، ففرح ، وأخبرني بأنه تربطه به صداقة حميمة ، ويرغب في التعرف عليه أكثر ، غير أن المنية عاجلته إلى رحمة الله .

وكانت نيتي ، لما يجمعنا من احترام متبادل وتقدير ، أن أُدَوِّنَ سيرته منذ أمد طويل ، غير أنني كنت وقتها أفتقد إلى مجموعة من المعلومات المتعلقة بسيرته الذاتية التي كنت أبحث عنها ، وما كتبه عنه صديقه المرحوم محمد الصالح خراز يمس موضوعي في بعض الجوانب الهامة جدا . وهنا أتوقف لتقديم شكري وامتناني للصديق الفاضل ، الأستاذ عبد الحميد بن نصر بسر ، الذي كان له قصب السبق في المبادرة بتلبية رغبتي بنشر بعض ما يتعلق بموضوعي .  

عائلته وميلاده :

ولد المكي بن محمد بن عبد القادر ، وزهرة عيشوش خلال عام 1945 بالعزازلة في بلدية الوادي[1]. تربى بين أهله تربية خالصة الانتماء لعراقتها وأصولها للعروبة والإسلام . وقد هاجرت العائلة إلى بلدة الرديف بالجنوب الشرقي لتونس رفقة والده الذي كان يعمل في شركة الفوسفات الفرنسية [2].

وعند العودة من بلد المهجر بعد حصول الوطن على استقلاله عام 1962 ، بنى حياته في 07 يناير سنة 1975 بالمرأة المصون زهرة بنت حبيب بنت ليبة المولودة في مدينة وهران يوم 14 أفريل سنة 1951[3] ، وأنجب أبناء أفاضل من خير ما أنجبت مدينة واد سوف .

دراسته الابتدائية والثانوية :

أدخله والده في حي السوافة بالرديف للمدرسة القرآنية لمتابعة حفظ القرآن الكريم ، كما هي عادة  أنداده من طوائف كل المسلمين ، لتلقينه أمور ديانته ، وتحصينه من الآفات الاجتماعية التي عادة ما تصيب الشباب والمراهقين . ولما بلغ عمره ست سنوات ، التحق بالمدرسة الفرنسية الواقعة في الحي . ثم انتقل إلى قفصة ، ثم عاصمة تونس لمتابعة الدراسة الثانوية .

نضاله في الحركة الوطنية :

انضم عام 1958 مبكرا للمنظمة الطلابية ، وصار إطارا في صفوف الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين هناك ، ابتداء من شهر ديسمبر عام 1960 حتى الاستقلال سنة 1962.

التحاقه بالتعليم العالي :

وعند العودة إلى أرض الوطن ، اندمج مع سائر رفاقه في سلك التعليم العالي بجامعة الجزائر ، ووقع اختياره على شعبة العلوم الإدارية والقانونية التي درس كل مقاييسها طوال سنوات ثلاث ، إلى أن حصل على شهادة الليسانس في الحقوق باللغتين العربية والفرنسية ، وكان من أوائل دفعته ، وحظي باستقبال رئيس مجلس الثورة والحكومة ، الرئيس هواري بومدين ، الذي سلم له شهادة التخرج في صيف عام 1966 مكنته من التوظيف في سلك القضاء .

ممارسة مهنة القضاء :

مارس مهنة العدالة قاضيا ، ثم وكيلا للجمهورية لدى مجلس قضاء ورقلة . ثم غادر سنة 1978 الوظيفة ملتحقا بسلك المحاماة . وافتتح مكتبا اكتراه من عائلة دودي في شارع محمد خميستي بالوادي يوم 21 ماي عام 1979[4].

وكان له برنامج أسبوعي في إذاعة الوادي ، موضوعه استشارات قانونية يجيب فيه على أسئلة المستمعين في كل ما يتعلق بالقضايا العدلية ، أفاد فيه الكثير من السائلين . وقد تعلم على يده جل المتربصين هذه المهنة التي مارسها مدة طويلة ، قدم فيها حصيلة تجاربه وخبراته ، ومن هؤلاء : صديقي وزميل الدراسة ، المحامي المرحوم ، الأستاذ الطيب هزلة[5] .

قدراته الذاتية :

كان من أبرز المحامين إن على مستوى المحاكم الابتدائية أو الاستئنافية . وأشار الصديق خراز أن المرحوم يميل إلى المرافعات الشفوية ، أي إلى القضايا الجزائية ، لما يتميز به من فصاحة وطلاقة وسرعة بديهة ، بخطاب يجمع بين الفنيات القانونية والأسلوب الأدبي الرفيع ، مستشهدا بالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ، موظفا الحِكَمَ والأمثالَ ، وما تراكم لديه من تجارب وخبرة طويلة ، رافعا اللبس في كثير من الأحيان عن غموض بعض النصوص القانونية العربية ، حين يعطي ترجمتها الصحيحة من النص الأصلي الفرنسي . وهي مهارة اكتسبها من معرفته لعدة لغات . إذ فضلا عن تحكمه في اللغة العربية ، فهو يجيد اللغتين : الفرنسية والأنجليزية .

كانت مرافعاته جدية ودقيقة ، تتخللها الدعابة والنكتة ، يوجز ويطنب حسب المقام ، يتوقف ويسترسل حسبما يقتضيه الحال ، حتى يكسر وبمهارة رتابة الإلقاء والتلقي، فيحول القول إلى خطاب ، والسماع إلى استماع ، فيشد إليه الجميع شد الحاذق الماهر . فاستحق وبجدارة لقب فارس المرافعات .

في إحدى المرات ، رافع مع زميله خراز في قضية مشتركة بينهما ، كانت على قدر من الحساسية، حضرها جمع غفير من الناس ، وترسانة من الصحافة ، فاستهل المرافعة بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( عرفت ربي بربي ، ولولا ربي ما عرفت ربي) ، فهمس لخراز أحد الصحافيين الذي لم يسمع الكلمة الأولى من المقولة ، متسائلا هل أن الأستاذ ميدة يسب أم ماذا ؟

علاقته المتميزة بالصديق محمد الصالح خراز :

         منذ التحاق الأستاذ خراز بمهنة المحاماة ، ارتبط بالشيخ المكي برباط وثيق ، وكانت علاقتهما متميزة عن جميع الأقران . فتكثفت الزيارات بينهما سواء في المكاتب أو المنازل ، أو حتى قضاء العطلة الصيفية معا ، ولا سيما في مدينة القالة . وامتدت العلاقة إلى شتى الجوانب ، وامتزجت مكوناتها متناغمة ، تعدت حدود الزمالة والصداقة إلى الأخوة الصادقة .

و طالما يتأسس الطرفان في المجال المهني في القضايا الجزائية المعقدة ، و كان التعاون مثاليا ساهم في إظهار الحقيقة بشكل جدي في نصرة العدل ورفع الغبن عن المظلومين . وكان الطرفان ينسقان أدوارهما في المرافعة ، وعادة ما يتولى الشيخ المكي جانب الوقائع ، ويتولى الأستاذ خراز الجانب القانوني ، فكان هذا التنسيق في المرافعة التي تتجاوز أذن القاضي السامعة إلى أذنه الواعية ، فتخاطب فيه الوجدان وتشاركه في تشكيل اقتناعه[6] .

شمائله الخلقية والسلوكية :

حظي سي المكي بالسمعة الطيبة والاقتدار الكبير في مرافعاته العدلية ، كما أشار إلى ذلك زميله في المهنة ، الصديق محمد الصالح خراز ، الذي التحق به بعد مضي أربعة أشهر ونصف فقط على وفاته ، وكأنهما على موعد مع القدر[7].

تميز بالأناقة في الملبس والمظهر حد العشق . و كان يحب الأنيق ويصفه بقوله (أبهة) ، ويذم ما دون ذلك بقوله (تعيس) . ومن صفاته الحميدة الخجل والمجاملة والمسالمة والتسامح والتواضع . لا يواجه أيا كان بالكلمة الجارحة حتى وإن كان يستحقها . ولم يلفت النظر أن الأستاذ ميدة غضب ـ بيد أنه احتج بأدب حين وقعت له واقعة بمحكمة تقرت . إذ كرر رئيسها عدة مرات قوله : ( تفضل أستاذ ميادة ، واصل أستاذ ميادة ، نعم أستاذ ميادة) . هنا توقف الأستاذ ، وجال بنظره على كامل أركان القاعة ، قائلا للرئيس : أين هي ميادة ؟ إنني لا أراها . هل جاءت لتغني هنا ؟ أما أنا فاسمي الأستاذ ميدة يا سيادة الرئيس! فضحك الجميع ، وواصل مرافعته بروحه المرحة كالعادة .

كان الأستاذ قمة في الكرم ، فلم يتذكر الأستاذ خراز أن أحدا سبقه لتسديد ثمن وجبة أو قهوة أو ما شابه ذلك ، بل كان يرى أن مبادرة غيره بذلك في حضوره إهانة له . وقد اعتاد يوم جلسة الجزائي أن يأتي بالغذاء للجميع ، سواء أكانوا قضاة أم محامين أم كتابا ، ولا يقبل من يشاركه في ذلك أحد ، إلى أن وقع سوء تفاهم بينهم كمحامين وبين وكيل الجمهورية ، الذي قال : (ها نحن نتواضع ونأكل معكم) ! عندها تدخل الأستاذ خراز ، وطلب من الأستاذ مكي قطع هذه العادة نهائيا . وفعلا انتهت.

كلما تنقل صديقه خراز إلى محكمة أو مجلس ما ، إلا وسأله المحامون القدامى عن الأستاذ ميدة على وجه الخصوص ، مُحَمِّلِينَهُ تبليغَ السلام إليه ، نظرا لما يتميز به من علاقات واسعة ، وما يتمتع به من سمعة طيبة . حتى أنه يوم السبت العاشر من شهر فيفري 2018 ، التقى الأستاذ خراز بأحد القضاة القدامى بعنابة ، فسأله عنه ، فأعلمه بأنه التحق بالرفيق الأعلى ، فكاد أن يغمى عليه .

كان رحمه الله ينأى بنفسه عن المناصب النقابية رغم إلحاح زملائه عليه ، و لا يخوض في السياسة ، بالرغم من إلمامه بكل مجرياتها ومعطياتها . ويقسم الأستاذ خراز أن صديقه كان محافظا على وحدة صف المحامين ، ويلتزم برأي الأغلبية حتى وإن لم يكن مقتنعا به .

كان المرحوم نصوحا للجميع ، يأوي في مكتبه المتربص فيستفيد ، ويستشيره القديم فيُرشد ، ويستنصحه المتقاضي فيُنصح[8].

لما شيد مسجد النور ، ظهرت القبة ذات ميل قليل ، فاقترح على جماعة المصلين متطوعا تقويضها وإعادة بنائها على حسابه الخاص ، غير أن الجماعة رأت أن لا لزوم لذلك[9] .

وفاته :

سافر إلى مدينة القالة بولاية الطارف ، فاعترته مساء يوم الجمعة 26 يناير عام 2018 أزمة قلبية على الساعة الرابعة وثلاثين دقيقة فارق على أثرها الحياة[10] . وقد فاجأت وفاته جيرانه الذين اصطدموا بهذه الفاجعة الأليمة غير المتوقعة . ودفن ليلا في مقبرة الحاج البكري بالبياضة ، وشيعه الكثير من زملائه وجيرانه وأقاربه وخلانه إلى مثواه الأخير . برد الله ضريحه ، وأنزل على روحه شآبيب الرحمة والمغفرة والرضوان[11] .

 

 

[1] –  حسبما سجل في شهادة الميلاد رقم 14274 ، وعقد الزواج رقم 59 ، مؤرخان في  03 /3/ 2025 .

[2] – عبد الحميد بن نصر بسر : الرديف زهرة المناجم من المقاومة التونسية إلى ثورة التحرير الجزائرية . سامي  للطباعة والنشر والتوزيع ،الوادي ،  2024 ، ص 125 .

[3] –  حسبما سجل في عقد الزواج رقم 59  بتاريخ 03 /03/ 2025 .

[4] – عبد الحميد بن نصر بسر : المرجع السابق ، ص 125 .

[5] – بقلم صاحب المقال .

[6] – المرحوم الاستاذ المكي ميدة كما عرفته . مقال نشره المرحوم الأستاذ المحامي محمد الصالح خراز قبيل وفاته بمدة قليلة عام 2018 .

[7] – بقلم صاحب المقال

[8] – محمد الصالح خراز : المرحوم الاستاذ المكي ميدة كما عرفته .

[9] – بقلم صاحب المقال

[10] –  حسبما هو وارد في شهادة الوفاة رقم 18 مؤرخة في 03 مارس 2025 .

[11] – بقلم صاحب المقال .

Quotation or text engine

الاستاذ عاشوري قمعون استاذ كرسي بجامعة الشهيد حمه لخضر بالوادي

Define the document

سيرة ذاتية عن احد المحامين البارزين في منطقة وادي سوف

تم التحميل من قبل: قمعون محمد الامين (Algeria)