الرّبيع العربيّ
قبل عشر سنوات، انطلقت ثورات شعبيّة لم يتوقّع أحد حدوثها في العالم العربي، وأثارت أحلامًا بالحريّة، قبل أن تتدحرج كرة الثّلج هذه في معظم الدول الّتي انتقلت إليها وتحطمّت آمالاً كثيرة. لكن هذا الحدث التّاريخيّ غيّر وجه المنطقة برمّتها.
وبدأت شرارة “الربيع العربي” بعود ثقاب أشعله البائع المتجوّل محمّد البوعزيزي بجسده بعد صبّ الوقود على نفسه في ولاية سيدي بوزيد في تونس احتجاجًا على احتجاز السّلطات المحليّة بضاعته في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010.
وأطاحت الانتفاضات الشّعبيّة بدكتاتوريّات متجذّرة حكمت لعقود بقبضة من حديد. وحرّكت الحناجر الّتي كانت تصدح بهتاف مشترك “الشّعب يريد إسقاط النّظام”، مشاعر الملايين في كلّ أنحاء العالم. واختصرت رغبة جيل كامل كان يجهل حتّى الآن قدراته، بالحريّة والتحرّر من الخوف. وُلد نموذج جديد للشرق الأوسط مستنداً إلى إدراك جماعيّ بأنّ الطغاة لم يعودوا في أفضل أحوالهم، وأنّ التّغيير يمكن أن يحدث من الداخل، وليس فقط كنتيجة لتغيّر في الخارطة الجيوسياسيّة العالميّة.
وشهد الشّرق الأوسط انهياراً سريعًا لأنظمة بدا أنّ الخلاص منها كان مستحيلًا. وأطلق على هذا الزلزال السّياسيّ والجغرافيّ الذي هزّ المنطقة بدءاً من 2011 اسم “الرّبيع العربيّ”، وقد أدّى إلى نتائج متفاوتة. فالتّظاهرات الشّعبيّة الحاشدة في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا تبعتها إصلاحات مخيّبة للآمال في أحسن الأحوال، أو ردود فعل قمعيّة من أنظمة دكتاتوريّة، ولكن أيضًا نزاعات دامية.
“الخريف العربيّ”
ولكن ثمار “الربيع العربيّ” المنتظرة لم تُزهر كما توقّعت الشّعوب. في 2019، عنون الكاتب الأميركيّ نوا فيلدمان كتابًا حول الموضوع “الشّتاء العربيّ”، وهو مصطلح ظهر هنا وهناك مع عسكرة الثّورات وصعود التطرّف الدينيّ واندلاع الحروب والنّزاعات. على غلاف الكتاب الخلفيّ، كتب الأكاديميّ البارز مايكل إغناتيف أن المؤلّف يسلّط الضوء على “أحد أهمّ الأحداث في عصرنا: الفشل المأساويّ للربيع العربيّ”. فباستثناء تونس، لم تملأ أي إصلاحات ديموقراطيّة الفراغ الذي خلّفه سقوط الأنظمة، وعلا صوت العنف.
ومع ذلك، فإنّ روحيّة الثورة لم تمت بعد، وهو ما تجلّى بعد ثماني سنوات في اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات الشّعبية في كلّ من السودان والجزائر والعراق ولبنان.
وتعتبر لينا منذر، وهي مؤلّفة ومترجمة لبنانيّة لعائلتها جذور سوريّة ومصريّة، أنّ شيئاً ما “في نسيج الواقع نفسه” تغيّر منذ اندلاع الثّورات. وتقول “لا أعلم إن كان هناك ما هو أكثر إثارة للمشاعر أو نبلاً من شعب يطالب بصوت واحد بحياة كريمة”.
وتضيف “يثبت ذلك أنّ أمراً مماثلاً ممكن، وأنّه يمكن للنّاس أن يثوروا ضدّ أسوأ الطغاة، وأنّ هناك ما يكفي من الشجاعة لدى الناس الذين يقفون ويعملون معاً لمواجهة جيوش بأكملها”.
ماذا تبقّى من “الربيع العربيّ”
كتبت الروائيّة المصريّة أهداف سويف أنّه من المبكّر تحديد إرث تلك الثّورات الّتي ما زالت في طور التّنفيذ. وتقول “الظروف الّتي عاشت الشّعوب في ظلّها منذ منتصف السّبعينات، أودت إلى الثّورة. كان أمراً حتميًّا ولا يزال كذلك”. وترفض سويف، على غرار ناشطين آخرين، ربط صعود الإسلام الراديكالي بالثّورات، بل ترى فيه “ثورات مضادّة” غذّت كل أنواع الحرمان والفقر الّتي يقتات عليها الجهاديّون.
كما ترفض مقولة إنّ مصر عادت إلى ما قبل العام 2011، بل تعتبر أنّ النّاس اليوم باتوا أكثر “وعياً ويقظة” لما يدور حولهم. وتوضح أنّ هناك اليوم “ثورة اجتماعيّة أحرزت تقدّماً كبيرًا في قضايا عدّة، مثل حقوق المرأة وحقوق المثليّين”، مشيرة في الوقت ذاته إلى أنّ “الطريق لا يزال طويلاً أمامهم”.
وتعليقا على خروج تظاهرات حاشدة في السودان والجزائر والعراق ولبنان، يقول الأستاذ في كليّة الدّراسات الشّرقيّة والإفريقيّة التّابعة لجامعة لندن أرشين أديب مقدم إنّ المطالب الرئيسيّة للتّظاهرات ستعود وتخرج إلى العلن “في أقرب فرصة وكأنّها تسوناميّ سياسيّ”. ويضيف صاحب كتاب “الثّورات العربيّة والثّورة الإيرانيّة: القوّة والمقاومة اليوم”، “شعوب المنطقة وضعت معيارًا جديدًا للسّياسة والحوكمة الّتي تطالب بها. ومنذ ذلك الحين، تُقاس كلّ السّياسات بحسب تلك المطالب”. ويرى أنّ “أيّ دولة لا تدرك هذه الحقيقة الجديدة يكون مصيرها الدخول في مواجهة”.
نظرة الشعّوب لحكامها تغيرت
ويظهر التّاريخ أنّ الثّورات تحتاج عادة إلى سنوات طويلة، غالبًا ما تكون صعبة، لبلوغ نتائجها. إلّا أنّه ليس من السّهل العودة عن التّغييرات الّتي طرأت على أشخاص شاركوا في تلك الثّورات أو كانوا شهودًا عليها.
وتقرّ المؤلّفة والمترجمة لينا منذر، أنّه بغضّ النّظر عمّا ينتظرها، فإنّ الطريقة الّتي تنظر بها الشّعوب إلى قادتها أو إلى العالم أو حتّى إلى نفسها، قد تغيّرت إلى الأبد. وتقول “عشنا فترة طويلة في عالم حاول أن يغرس فينا فكرة أنّ الفكر المجتمعيّ مشكوك بأمره، بل أنّ الفرديّة هي مرادف للحريّة، لكن هذا ليس صحيحًا. الكرامة هي مرادف الحريّة”.
وتضيف منذر “هذا ما علّمنا إيّاه الربيع العربيّ، في أيّامه الأولى المثاليّة. (…) ندفن الدرس أو نبني عليه، هو أمر يبقى أن ننظر فيه… لكن لا أتمنى بتاتًا أن أعود إلى الأيام السابقة”.
خلال السنوات الماضية، كان دائماً يُنظر إلى “ثورة الياسمين” في تونس على أنّها الثّورة الّتي يجب الاحتذاء بها. فقد تمّ تفادي إراقة الدّماء في تونس، وابتعد السّياسيّون كما المواطنون عن أيّ عمل من شأنه أن يؤدّي إلى تقسيم البلد.
ويعتبر نوا فريدمان في كتابه “بالمقارنة مع الفشل في مصر والكارثة في سوريا، تبدو تونس وكأنّها العلامة الفارقة في الظاهرة الإقليميّة”. ورغم أنّ الدولة الصغيرة في شمال إفريقيا بقيت أفضل حالاً من الدول الأخرى، إلا أنّ مكاسب ثورة 2010 لا تزال غير ظاهرة.
ع.ج.م/و.ب (أ ف ب)
المصدر: https://www.dw.com/ar/عشر–سنوات–على–الربيع–العربي–أحلام–تراوح–مكانها/a-55971333
Quotation or text engine
https://www.dw.com/
Define the document
هذا المقال يسلّط الضّوء على الشّرارة الأولى لانطلاق الثّورات في العالم العربي الّتي أطاحت بكثير من أنظمة الحكم. يرد في هذا المقال العديد من الآراء العربيّة والغربيّة الّتي تلقي نظرة تحليليّة بعد مرور حوالي 10 سنوات على انطلاق الشّرارة الأولى لهذه الثّورات في تونس وتمتدّ إلى معظم الدول العربيّة الّتي شهدت شوارعها ثورات مماثلة.
Questions about the document
1- هل تحوّل الرّبيع العربيّ إلى خريف عربيّ؟ 2- إلى أيّ مدى ساهمت إنطلاقة ثورات الربيع العربي في تغيير أنظمة الحكم في هذه الدول؟ 3- هل حمل الرّبيع العربيّ فعلًا ربيعًا مزهرًا للعالم العربيّ؟