الحرب الاهلية اللبنانية

 

تميّز تاريخ لبنان خلال سنوات الحرب الأليمة التي عصفت به، بين 1975 و1990 ، بحدوث تحوّلات جذريّة شملت مجتمعه وبنيته وتعايش طوائفه الدينيّة، وسلوكيات مواطنيه وثقافتهم السياسيّة ومعارفهم وانماط عيشهم، خلال أطول نزاع  داخلي في تاريخه الحديث والمُعاصر. وقد تسبّبت الحرب في تفكيك الدولة اللبنانيّة من ناحية  تقليص سيادتها على أرضها وسلطتها على  شعبها، وانهيار مؤسّساتها  وماليّتها، وإلحاق  الأضرار بالاقتصاد الوطني، والقضاء على  مركزّية السوق الداخلية وصعود قوى  اجتماعيّة، هي المليشيات  وقوى الامر الواقع التي استطاعت  أنْ تُهمّش دور الدولة وتُعطّل قرارها، وتستحوذ على إيراداتها، وتضع أيديها على مؤسّساتها  وإداراتها. وشهدت  هذه المرحلة  تصدّعاَ في المجتمع اللبناني، من خلال  ما طرأ من انقسام بين  بـَنـيْه ، على أُسس طائفيّة وسياسيّة  وثقافيّة ومناطقيّة ، وانعدام التواصل في ما بينهم  فضلاً عن سياسات التهجيرالقسّري والهجرة، والتأثر بقيم الحرب وثقافتها وتداعياتها على التربية والتكوين المعرفي. كما تأثر المجتمع اللّبنانيّ بالأحداث الأمنيّة وتصدُّع آليات الاستجابة للأوضاع الاقتصاديّة والقدرة على الرفض ، بعدما جرى تهميش دور مؤسسات المجتمع المدنيّ. وقد سارت عمليّة  تفكيك الدولة جنبًا الى جنب مع عمليّة تصديع المجتمع اللبنانيّ، فكانت النتيجة انهيارًا شبة تامّ على الصُعُد السّياسيّة، والثقافيّة والمعرفيّة والقيميّة.

  لقد اعتُبرت حربُ لبنان المُختبرَ التاريخيّ والاجتماعيّ والسياسيّ لتناقضات المجتمع اللبناني التي سَبَقَت تقاتلَ بَنيه، وتجلَّت في النظّام السياسيّ وما يقدّمه من مكاسب وفوائد لطائفة على أخرى، وحدثت في إطار صراع داخليّ  بين اللبنانيين أنفسهم حول المسار التاريخيّ الذي كانَ على وطنهم أنْ يأخذَ به في مرحلة تاريخيّة دقيقة أتت في سياق النزاع العربي – الإسرائيليّ وتحوُّل المُنظّمات الفلسطينيّة الموجودة على أرضه إلى عاملٍ مؤثرٍ وفاعلٍ في خلق التجاذبات الطائفيّة بين اللبنانيّين فضلاً عن تعاظُم الخلافات بين الأنظمة العربيّة وتداخلها مع القوى الإقليميّة والدوليّة  في الأزمة اللبنانيّة .

لقد اصبح العامل الخارجيّ عشيّة اندلاع الحرب وخلالها، هو الذي يتحكّم في مسار الأزمة اللبنانية ، بعدما  ظهرت مشاريع خارجيّة وداخليّة تتفاعل داخل الطوائف والاحزاب والميلشيات اللبنانيّة، وكذلك داخل المنظّمات الفلسطينيّة فشجعّت القوى الخارجيّة على تأزيم العلاقات ذات طابع  النزاعيّ بين اللبنانيّين، بإغداق الأموال والأسلحة وأصناف المساعدات على المُتَحاربين، وفرض إيديولوجيّاتها وسياستها عليهم ، حتّى أثناء وضع تسويات سياسيّة  للأزمة اللبنانيّة. وقدّ كشفت التطوّرات أنّ تفاقم التناقضات بين اللبنانيّين أدىّ إلى تفشّي  ظاهرة عسكرة السياسة والمجتمع  اللبنانيّ وقضت على  كلّ إمكانيّة  للعودة إلى حالة السلم  من دون جهد أو ضغط خارجي.

 ولا تزال  حتّى  اليوم  ممهّدات  الحرب في لبنان  ومُسببّاتها عرضة للنقاش الأكاديميّ. ركزّت بعض الدراسات على العامل الفلسطينيّ في الحرب كمؤجّج ومسببّ لها، واعتبر بعضها الآخر أنّ المسائل الخلافيّة بين اللبنانيّين كهوّية لبنان والامتيازات المارونيّة، ومطالبة المُسلمين بمشاركة أكبر في السلطة، ومسألة الإنماء المتوازن بين الطوائف والمناطق، كانت أسبابًا لاندلاع الحرب. وربط آخرون  بين ما حدث في لبنان بأهداف إسرائيل في القضاء على الوجود العسكري الفلسطينيّ على الأراضي الّلبنانيّة  وضربها التعايش بين اللبنانييّن، وبالصراع  السوريّ- الإسرائيليّ على لبنان، وبالنزاعات  العربيّة – العربيّة ومشاريع السلام في المنطقة، وأخيرًا، الصراع بين الشرق والغرب أثناء “الحرب الباردة”. من هنا  يُمكن القول: إنّ  لبنان لم يعد عشيّة الحرب عام 1975 ضحية انقساماته الداخليّة فحسب، بل ضحيّة موقعه الجغرافيّ والسياسيّ.

 استنادًا  إلى ما سبق، فإنّ اختصار أسباب  الحرب وحصرها  بالوجود العسكريّ  الفلسطينيّ في لبنان وتدخّل  المقاومة الفلسطينيّة في الشأن اللبناني ّ الداخليّ، وإهمال  العامل الخارجيّ الإسرائيليّ، السوريّ، العربيّ، الاقيليميّ، الدوليّ، هو مُقاربة غير موضوعيّة للأزمة الّلبنانيّة . أمّا العامل الداخليّ المُتمثّل في الخلاف حول هويّة لبنان، وتمسُّك الموارنة  بامتيازاتهم، وبالتالي مطالبة المُسلمين بمشاركة أكبر في السّلطة، فكان هذا الخلاف مطروحًا كمسألة  نزاعيّة بين اللبنانيّين.

لكنّ العامل  الفلسطينيّ تقدّم  في المرحلة الاولى من الحرب على ما عداه من الاعتبارات (الأخرى)، من غير أنّ يعني هذا أنّ العواملَ الأخيرة كانت أقل أهمية. بعد خروج المقاومة  الفلسطيّنية من بيروت في عام 1982، ومغادرة  ياسرعرفات لبنان  في العام التالي، تبيّن أنّ الصراع  العربيّ الإسرائيلي وخلافات  الدول العربية في مابينها، ودخول إيران، الجمهوريّة الإسلاميّة، إلى الساحة اللبنانيّة كطرف إيديولوجيّ وسياسيّ بعد عام  1982، والصّراع الدوليّ في الشرق الأوسط، كلّها مسائل شائكة استمرّت انعكاساتها على الوضع  الداخليّ اللبنانيّ مُذكيّة التناقضات بين اللبنانيّين ومُؤَجّجة الخلافات في ما بينهم.

بناءً على ماتقدّم، فإنّ إطلاق صفة “حرب لبنان” على مرحلة النزاع بين عامي 1975 و1990، وليس “الحرب الأهليّة اللبنانيّة “، أو”الحرب اللبنانية” ، أو “حروب الآخرين على أرض لبنان “، هو، في راينا، الأكثر صحّة علميًا وموضوعيّاً، لأنّ هذه الحرب لم تكُنْ في كثيرٍ من مراحلها  صراعًا داخليًا صرفًا بين اللبنانيّين. لقد استطاع العامل الخارجي (الفلسطينيّ، الإسرائيلي، السوريّ، العربيّ، الإيرانيّ، الدوليّ) أنْ يَستغّل تناقضات المُجتمَع اللبنانيّ وضعف تماسكه، وانعدام سييطرة الدولة عليه والإمساك به، وهشاشة  بُناه المؤسّساتية والسياسيّة للتلاعب بالتوازنات  الداخليّة أو تغذية (خلافات سياسيّة ،حملات إعلاميّة ، إغداق الاسلحة والأموال على فرقاء النزاع، رعاية إطلاق النار  واعمال  العنف والخطف  والقتل الخ..) لتاجيج عوامل النزاع  بين  اللبنانيين.

 علاوة على خلفيّاتها ومسبباتها وأبعادها السّياسيّة، والإجتماعيّة ، والإقتصاديّة، والنفسيّة، فقد حملت هذه المرحلة  المصيريّة من تاريخ الوطن  أكثر من معنى: 1- طرحت شرعيّة الكيان اللبنانيّ ، ومدى ولاء اللبنانيين لذالك الوطن المسمى ّ”لبنان”، 2- كانت صراعًا سياسيّا ، واجتماعيًّا  وعسكريًّا  بين المناطق وداخل الطوائف، 3 – كانت قترة زمنيّة  سيطرت  فيها انماط  جديدة من الثقافة  والتفكير  المناطقيّ  والطائفيّ  والعلاقات  والقواعد  الاجتماعيّة  بشكلٍ مختلف  عمّا  كان عليه  الوضع فبل 1975،  4 – تسببّت في تعطيل  سلطة الدولة  وسيادتها  وشلّ  مؤسساتها  وابتلاع  مجتمعها  المدنيّ  من قبل الميليشيات وقوى  الأمر الواقع، 5 – شكلّت إطارًا  زمنيًّا ومكانيًا  لمرحلة تاريخية –إجتماعية  امتلأت  بالتغيير  وبالسلبيّات  أكثر من الايجابيّات .

لقد اعتبر بعض الباحثين بحقّ، ان  الحرب التي عاشها  اللبنانيّون وأكتووا بنيرانها ، تُعتبر سنوات مسروقة أو ضائعة من حياة كلّ فرد منهم،سواء كان طفلاً، أم شابًا، أم كهلاً، أم عجوزًا. ورأى أنّ حالة أنتظار إعادة  البناء والإعمار وبناء السلام وعودة الحياة إلى طبيعتها ، كانت في حدٍّ ذاتها خسارة للسنين المقبلة من عمر كلّ لبناني.

 بناءٍ على ماسبق، لم تكن الغاية من إصدار الكتاب، الذي استغرق  العمل عليه أكثر من عشرة سنوات  هي استحضار ماحملته  هذه الحرب ، من احقاد  دفينة وذكريات  أليمة  وآثار مريرة من هواجس  لم تخمد من نفوسنا بعد، ولا  إلقاء  التهم  جزافًا أو من نبش الماضي  وفتح ملفاته  والدعوة الى المساءلة وتحديد المسؤولية ، او ألقاء  الضوء على بطولات حقيقية  أو زائفة  هنا وهناك  وإضفاء  صفات الوطنية  او الخيانة  على هذا وذاك ، وتحميل نظام لبنان  مسؤولية مافعلته  أيدينا أيدي الاخرين ، وانما  القيام بقراءة عقلية  واعية لمعرفة  جذور الحرب  وأسبابها، كيفية نشوئها وتفاعلاتها ، واستعادة  هذه التجربة الاجتماعية، السياسية، ، السلوكية ، المعرفية في ذاكرتنا.واستيعاب  دروسها عبرها وعدم طمسها ، كي لا يؤذينا  نسيان ويلاتها  وأضرارها إلى تكرار  وإعادة  أنتاجها من جديد. فعلينا أذًا ، ان ننعش  ذاكرتنا  وذاكرة أجيالنا  الصاعدة  بأن تقاتل  أبناء الوطن  الواحد  يجرّ الى الخراب  والمآسي  على البلاد ، فيما يؤدي الحوار المنطقيّ بينهم  إلى التغلب  على كلّ الصعاب.

 

مصدر المستند

المصدر: عبد الرؤوف سنو، حرب لبنان 1975-1990، المجلد الاول - مفارقات سياسيّة والنزاعات المسلّحة والتسوية، مقتطفات من ص21-22-23-24

تعريف المستند

الحرب الاهلية اللبنانية

أسئلة حول المستند

لماذا اندلعت الحرب الاهلية اللبنانية سنة 1975؟ ماهي اسباب الحرب وماكان تأثيرها؟

الكلمات المفتاحية

تم التحميل من قبل: الحريري أميرة (Lebanon)