فخر الدين المعني الثاني

فخر الدين الثاني بين الخالدي والمحبي[1]

إعتمد كل من الخالدي[2] والمحبّي[3] في حقبتين من القرن السابع عشر، الشرع “كمرتكز” لتقويم تاريخ المعني، فجاءت أحكامهما متعارضة على الصورة الآتية.

              فالخالدي يرى في فخر الدين رجلًا مطيعًا لله وللسلطان، عمادًا للمساكين وكهف للمرتجين ومدد للملتجين، واقفًا في وجه المظالم ومحافظًا على علاقته مع الدولة العثماني.

              أما المحبي فيرى في فخر الدين رجلًا خارجًا عن طاعة السلطان ومجاوزًا الحد في طغيانه، كما يرى فيه رجلًا راودت نفسه السلطنة واستمل القوة من أجل ذلك.

              تناول كل من الخالدي والمحبي فخر الدين كعامل تاريخي في وظيفتين متعارضتين بالنسبة إلى الشرع، وفي ظرفين تاريخيين عانت فيهما السلطنة العثمانية فكرتي الإصلاح والحداثة:

              عاش الخالدي في المرحلة التي تلت إصلاحات سليمان القانوني (1520-1566) وشهدت فيها السلطنة بداية ضعفها وتفككها. فإصلاحات السلطان حملت بذور الشعف التي نمت بشرعة في ظروف مؤاتية لتهدد مستقبل السلطنة: فتخلّي السلطان عن السلطة الفعلية أطلق يد الصدر الأعظم في تسيير شؤون الدولة، وترك الباب مفتوحًا أمام والدة السلطان ومحظيات السراي للتدخل في شؤون الحكم؛ أما الصلاحيات الواسعة والكيفية التي منحت لحكام الولايات بعد إدخال مبدأ بيع المراكز في الدولة، فشجعت النزعة الاستقلالية عند هؤلاء الحكام وسمحت لهم باستغلال كل طاقات الولايات للحفاظ على مراكزهم.

              جاءت هذه الإصلاحات في مرحلة بلغت فيها السلطنة ذروة توسعها، فتوقف الفتح في عهد خلفاء سليمان القانوني المباشرين الذين تميّزوا بالضعف واللامبالاة، وارتدت القوى الغازية على السلطنة تستهلك قواها دون أي رادع، حتى تآكلتها ثورات الانكشارية ومطامع الولاة وتمرّد الأمراء والمشايخ المحليين، يتحدون سلطة الدولة كلما توفّر لهم المال والرجال. وانفضّ عنها الشعب، همّه التخلّص من السيطرة العثمانية في وقت كانت أوروبا تجنّد كل طاقاتها المادية والفكرية للتوسع والهيمنة. وأُدخلت السلطنة العثمانية في دائرة الطموحات الأوروبية، تغذيها الفكرة الصليبية في شرق والمصالح الاقتصادية التي استغلت النزعة الاستقلالية عند بعض الولاة المحليين كعلي باشا جنبلاد في حلب وفخر الدين الثاني.

              ولم تخرج فلسطين عن عملية التآكل الداخلي التي عمّت السلطنة العثمانية. فقد تعارضت مصالح الأمراء والمشايخ المحليين مع مصالح الولاة والمتسلمين العثمانيين. ووقع الشعب في ضائقة مغلوبًا على أمره. والصورة التي يعطيها الخالدي عن مجتمع لواء صفد قاتمة. […]

              يختصر الخالدي وضع مجتمع ولاء صفد […] ويعطيه تفسيرًا شرعيًا، أي أن مجتمع لواء صفد خضع للمتحول من الفعاليات البشرية (الولاة والحكام) التي خرجت عن الشرع باختلاف الأحكام. فعمّت المحن وتعرَّ المسلمون “لأذى اللصوص”، وتحوّل دار الإسلام، دار العدل، إلى دار الظلم والجور، وحق للمسلم لا بل وجَبَ عليه “تغيير المنكر بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع بقلبه وذلك أضعف الإيمان”. ويضيف الخالدي الهجرة للخروج من دار الظلم. لكن هذا الواقع لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. فالعدالة واجبة الوجود في دار الإسلام، إن عجر عن تحقيقها المؤمنون، فإن الله “الذي جعل نظام العالم فضلًا منه وصلة إلى تصحيح معاش ابن آدم، وقدر الخير والشر على ما شاء من عباده وبلاده”، يتولى أمرها. فبعد أن تجرّع أهل صفد “غصص الكرب والأشجان) نتيجة “تبدّل الولاة وتغيير الدول واختلاف الأحكام” […] “منّ الله عليهم بدولة مؤبدة. ونعمة مخلدة. ألا وهي الدولة المعنية. التي هي بامتثال الشرع معنية. وولى عليها من هو فخر للدين وعماد للمساكين وكهف للمرتجين ومدد للملتجين الأمير فخر الدين”.

              فالشرع إذًا عند الخالدي الإمام والقاضي، تراث أنتولوجي يقضي بتحقيق إرادة الله في عباده والامتثال للشرع يعني إحقاق العدل في البلاد والعباد. وليس الأمير سوى تنفيذ المشيئة الإلأهية والعلامة الفاصلة بين زمنين: الزمن السياسي وهو المنكر لما يرتكب فيه من الظلم والجور؛ والزمن الشرعي زمن العدالة الذي يتولى فيه الأمير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر “لتصحيح معاش ابن آدم”. […] فالأمير فخر الدين هو النقيض العملي لحكام عصره. “يباشر تدبير مملكته بنفسه ويضبط أموالها، ويتقن أمورها بقوة حدسه، كما يعطف على الغني ويحنو على الفقير، ويصغي إلى المظلوم. فينصفه من ظالمه، ويرثي لحاله، فيكون له خير راحمة”. […]

              لكن الأمير “هيوش، حليم عند الغضب… قوي العزم. شديد الحزم” مع الخارجين على الطاعة والمفسدين. لا يتورّع عن تأديب مخالف، وضبط فار، ضنًا بمصلحة الرعية. فعندما “توّجه الأمير فخر الدين إلى عكا… فرق القصاد على ساير البلاد لجمع المال… طاحت مشابخ بلاد بشاره.. وكذلك طاح من بلاد صفد… وصاروا كل حين يجوا إلى البلاد ويسرقوا ويقطعوا الدروب”. فلما بلغ الأمير ذلك أرسل هدم بيوتهم وضبط جميع غلتهم ورزقهم. “وما كان قصد ضرورة أحد منهم… فلما كثر إفساد المغاربين النازحين إلى أفيق توجه الأمير فخر الدين إلى عكا إلى قرية حطين… وصار لهم تأديب لم يحصل مثله لغيرهم… وتكفلوا… أنهم يعودون إلى بلدهم ورجالهم ويمشون على قدم الطاعة والسداد ولا يعودون إلى الفرار”.

              كذلك الأمر كان الأمير “مهاب جليل… حسن التدبير”. وحكمًا عادلًا يلجأ إليه الأمراء المحليون لفضّ خلافاتهم. […]

              أما علاقة الأمير “بالسلطنة الشريفة” فكانت قائمة شرعًا على “طاعة الله والسلطان”. فهو “يؤدي ما عليه من الأموال في كل آن”، ويقوم بخدمة “الاستقبال” للولاة والحكام وللصدر الأعظم بواجب الطاعة”.

              لكن الصدر الأعظم والولاة غالبًا ما طمعوا ببلاد ابن معن وهي “عامرة وأهلها متكاثرة. وأنه يتحصل منها أموالاً جمة”. لذلك كانت “الخدمة” لنصوح باشا مثلًا “استعطافًا لخاطره ودفعًا لضرره”؛ كما كانت “خدمات” الأمير الأخرى لرد الشكايات عليه من قبل الولاة والحكام المحليين. “فعطاء الأمير الجزيل” ثبت علاقته “بالسلطنة الشريفة” وجعله وسيطًا بين الدولة والولاة المظلومين. لكن فخر الدين لم يسلم من حسد الولاة والحكام إذ لم يزالوا “يسعون به عند الباشاوات والوزر بحيث لا يبقى كل منهم أكاذيبه ولا يذر. والله تعالى بحسن نيته. وصفاء سره وطويته. يخلصه من كل ضيق. ويفرج عنه. ويفتح له الطريق. بناء على ما عوده من الجميل”. ومكافأة له على حسن قيامه بمهمة الأمن وجباية الأموال السلطانية “اجاه أحكام سلطانية فرمان علي شان خط همايون بأنه يكون متوليًا على ديرة عربستان من حد حلب إلى حد القدس ومعطى إسم جده المغفور له الأمير فخر الدين سلطان البر على المقاطعات المذكورة بحيث تودي ميرتهم إلى الخزينة العامرة وسلوك طرقايهم وانتظام عمارهم”. كان ذلك في العام 1624 عند توقف الخالدي عن التدوين.

 

المحبي

              إن حكم الأمير كان يخضع لتقلّبات الدولة العثمانة وللمؤثرات المرحلية التي كانت في أساس نشأة إيديولوجية “البطل فخر الدين”.

              فالوزير أحمد الكوبرلي “الذي عزت به السلطنة وافتخرت الدولة […] كان عصره إلى أواسط مدته أحسن العصور ووقته أنضر الأوقات. ولم يكن في الوزراء من يحفظ أمر الدين وقانون الشريعة مثله، صعبًا شديدًا في أمور الشرع سهلًا في أمور الدنيا”. أعطي حكومة الشام برتبة الوزارة (1660-1661)، “وكانت أمورها مختلة النظام فأصلحها [..] وركب على أولاد معن وبني شهاب وأقام بالبقاع العزيزي أيامًا حتى أزالهم من بلادهم وقمع أهل الفتن”. ثم ولي الصدارة العظمى حتى وفاته (1661-1676).

              وبدفع من الصدارة العظمى استعادت السلطنة بعض هيبتها ولعب الشرع دوره في ضبط حكومتها وتجديد حيوتها وإن لمدة من الزمن. فسرت في السلطنة دولة ورعايا، روحية جدية طرحت موضوع إصلاح الحكم على أسس شرعية. وقد انعكست تلك الروحية سياسيًا، على الخارجين عن الدولة؛ وشرعًا، على الفرق الإسلامية. ففي ولاية الكوبرلي على الشام شاع بين الناس أن لل]مر فخر الدين “سيرة غير مشكورة”. وفي أواخر القرن السابع عشر أعاد المحبي إلى الأذهان الفتاوى ضد الدروز والنصيرية والإسماعيلية: فالدروز من جهة الاعتقاد، “هم والنصيرية والإسماعيلية على حد سواء والجميع زنادقة وملاحدة”. وقد أجمع القضاة في فتاويهم من مختلف المذاهب على “أن كفر هؤلاء الطوائف مما اتفق عليه المسلمون وإن من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم […] وأنه لا يجوز إقرارهم في ديار الإسلام بجزية ولا بغير جزية ولا في حصون المسلمين. وجزم ابن تيمية بأنهم زنادقة وأنهم أشد كفرًا من المرتدين […]. وقد أطل المحبي ذكر حالهم “لكثرة تشعّب الآراء فيهم فهذا يقرّر ما هم عليه في الأذهان”.

              وما قرره المحبي بالنسبة إلى فخر ادين بن معن “الدرزي المشهور” هو نتيجة للحكم على الدروز. فالتحليل التاريخي الاسترجاعي لحكم الأمير لا يرتبط بالمكان والزمان، إنما يضبط بالمسلمات الشرعية التي على أساسها تقوم الفعاليات البشرية في مدى انسجامها مع الشرع أو الخروج عليه. […]

              لذلك يظهر حكم فخر الدين في بيئة المحبي مشروع خروج على السلطنة بقدر ما خرجت الدرزية على الإسلام. ففخر الدين هذا “ولي إمارة الشوف من جانب السلطنة بعد موت أبيه فعلا شأنه وتدرج إلى ان جمع جمعًا كبيرًا من السكبان واستولى على بلاد كثيرة.

              فبحسب المحبي خرج الأمير فخر الدين على طاعة السلطنة. وزاد بعد ذلك في الطغيان والاستيلاء على البلاد. وبالجملة فإنه سرى حكمه من بلاد صفد إلى انطاكيا. ولم يزد بعد ذلك إلا عتوًا وكبرًا. وبلغت شهرته الآفاق. وبالجملة فقد بلغ مبلغًا من القوة لم يبق وراءه إلا دعوى السلطنة.

              يظهر حكم الأمير بالنسبة للمحبي “مخالفة وتعد” لا بل “منكر” يسيء إلى السلطنة كوضعية تاريخية شرعي. لذلك، “لما تحقق للسلطان مخالفته وتعديه بعث لمقاتلته الوزير المعروف بالكجك […] فركب عليه وقتل أولًا إبنه الأمير عليًا ثم قبض آخرًا عليه وجهّزه إلى طرف السلطنة فقتله السلطان”.

 

             

             

 

[1] جان شرف، الأيديولوجيا المجتمعية. مدخل إلى تاريخ لبنان الاجتماعي، بيروت، منشورات الجامعة اللبنانية، 1996، ص.

[2] هو الشيخ أحمد من محمد بن يوسف الصفدي المعروف بالخالدي الحنفي. كان إمامًا بارعًا فقيهًا مطلعًا. تقرّب الخالدي من الأمير المعني، فأحبه هذا الأخير واعتمد عليه في بعض المهمات. وهو جمع أخبار المعني في كتاب. وقد تم نشر الكتاب من قبل أسد رستم وفؤاد أ. البستاني بعنوان “لبنان في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني”، بيروت، 1969.

[3] هو محمد الأمين بن فضل الله بن محب الله بن محمد محب الدين الدمشقي (1651-1669). درس في بروسا ثم تقلب في عدة وظائف في أندرينوبل ومكة والقاهرة ودمشق. أهم مؤلفاته “خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر”.

مصدر المستند

جان شرف، الأيديولوجيا المجتمعية، بيروت، منشروات الجامعة اللبنانية، 1996

تعريف المستند

هو نص تاريخي يتكلم عن كيفية اختلاف نظرة المؤرخين حول شخصية الأمير فخر الدين الثاني

أسئلة حول المستند

ما هي الإشكالية الواردة في هذا النص؟ كيف تختلف المقاربات بين كل من الخالدي والمحبي؟

تم التحميل من قبل: elias amin (Lebanon)