رأيت رام الله
أخيراً! ها أنا أمشي بِحقيبتي الصغيرة على الجسر، الذي لا يزيد طولُه عن بِضْعَةِ أمْتارٍ منَ الخشب، وثلاثين عامًا من الغربة.
العَلَمُ الأردنيّ هنا بِألوانِ الثورةِ العربيّة. بَعْدَ أَمْتارٍ قليلةٍ، هناك العَلَمُ الإسرائيليُّ، باللّونِ الأزرقِ للنّيل والفُرات وبينهما نَجْمةُ داود. هَبَّةُ هواءٍ واحدةٍ تُحَرٍّكُهُما. بِيْضٌ صَنائِعُنا. سُوْدٌ وَقائِعُنا. خُضْرٌ مَرابِعُنا… الشِّعرُ في البال. لكنّ المَشْهَدَ نَثْريٌّ كفاتورةِ الحساب.
عَوارضُ الخشبِ تُطَقْطَقُ تَحْتَ قدَمَيّ.
سِرْتُ خطوات.
هذا أوّلُ جُنديٍّ إسرئيليٍّ يُطِلُّ بِقُبَّعَةِ المُتَدَيِّنين.
نَظَرْتُ الى وجهِ الجنديِّ:
لِلَحظةٍ بدا لي أنّه مُتَوَتِّرٌ مُتَحَفِّز.(أَمْ هي حالتي أنا أُسْقِطُها عليه). لا. إنّها وَقْفَةٌ روتينيّة يَقِفُها يوميًّا وهو يرى آلافاً من الفلسطينيين أَمْثالي يَمُرّون بِحَقائِبَ زياراتهم الصّيْفيّة أو يغادرون الى عمّان لقضاءِ شُؤونَ حياتهم. لكن وَضْعي يختلفُ عنْ أوضاعِهِم.
قُلتُ لِنفسي: هلْ يُبَرِّرُ ذلك أنّني أَمُرُّ مِنْ هنا للمرّة الأولى منذ ثلاثين سنة؟ المرورُ على هذا الجسر ظلّ مُتاحاً دائماً للمُقيمين تَحتَ الإحتلالِ، للمُغتربين الذين يَحْملون تَصاريحَ الزيارةِ أوْ لَمِّ الشّمل. طوال السنوات الثلاثين، فَشِلْتُ في الحصولِ على أيٍّ مِنَ التصريحَيْن.
في المرّة السّابقة مباشرة، كانت نظّاراتي الطّبيّة أقلّ سِمْكاً، وشَعْرُ رأسي كان أسود تماماً. ذكرياتي كانت أكثر خِفّةً، وذاكرتي كانت أكثرَ ثِقْلاً.
المرّة السابقة مباشرة، كنت ولداً. هذه المرّة أنا والد. والدٌ لِوَلدٍ هو الآن في مِثْلِ عمري عندما مَرَرْتُ مِنْ هنا لآخرِ مرّة!
المرّة السّابقة مَرَرْتُ مِنْ هنا مُغادِراً وطني لأتعلّم في الجامعة البعيدة. الآن تَرَكْتُ ابني وَرائي في نفس الجامعة ليَتَعَلَّم.
في المرّة السّابقة لم يَكُنْ أَحَدٌ يُجادِلُني في حقّي في رام الله، الآن أتساءَلُ عن دَوْري في حِفْظِ حَقِّه في رُؤيَتِها. وهل سأُخرِجُه مِنْ سجلّات اللّاجئين والنّازحين وهو لم يَلْجأ ولمْ يَتْزَح وكلُّ ما فَعَلَهُ أنّه وُلِدَ في الغُرْبة؟
الآن أَمُرُّ مِن غُرْبَتي الى… وطنهم؟ وطني؟ الضّفّة وغزّة؟ الأراضي المحتلّة؟ المناطق؟ يهودا والسّامِرة؟ الحُكْم الذّاتي؟ اسرائيل؟ فلسطين؟
هل في هذا العالم كلّه بلدٌ واحدٌ يَحارُ الناسُ في تَسْمِيَتِه هكذا؟
مصدر المستند
مريد البرغوثي، رأيت رام الله، بيروت لبنان، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2003
تعريف المستند
رأيت رام الله للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي (المركز الثقافي العربي 1998) يحكي لنا الكتاب فى حقيقة الأمر رحلة الشاعر إلى رام الله بعدما حرم من دخولها منذ خرج منها للدراسة فى جامعة القاهرة، ووقعت أثناء سنوات الدراسة واقعة 1967 (حرب الأيام الست/ النكسة) التى وقع بها النصف الثانى من فلسطين فى قبضة الاحتلال.يقدم لنا فى هذا العمل رحلة الفلسطينى الصعبة للتشبث بوطنه وهو فى المنفي، ولتأسيس حق ابنه”تميم” فى هذا الوطن. فشاغل مريد فى هذه الرحلة هو أن يحصل لابنه الذى ولد فى المنفي، من أب فلسطينى وأم مصرية هى الكاتبة المصرية رضوى عاشور، على حق العودة لوطنه الذى لم يضع قدماً على ترابه بعد”